الجمعة 09 ابريل 2021 16:22 م بتوقيت القدس
لقد تعامل الشّيخ رائد صلاح مع السّجن مثلما تعامل مع أيّ محطّةٍ مِن محطّات حياته الأخرى. ولم يدع للجوانب الشخصيّة أيّ أفضلية إذا تعارضت مع القضيّة الأساس التي سُجن مِن أجلها، فهو يحمل قضية ومشروعًا ويسعى مِن خلال نشاطه إلى تحقيق هذا المشروع على أرض الواقع، حتى لو كان ذلك على حساب حريته الشخصية.
نستطيع القول إنَّ كلّ الملفات والقضايا التي لُفّقت للشيخ رائد صلاح هي ملفات تعسّفية تتعلق بالمشروع الذي يحمله والمفاهيم التي يؤمن بها، وخاصّة تلك التي تتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت الاحتلال ويتعرض للاضطهاد القومي والتطهير العرقي، والمحافظة على المقدسات وخاصّة المسجد الأقصى المبارك.
فالشّيخ تعرّض وما يزال إلى الملاحقة السياسيّة والدينيّة عبر إجراءات قانونية شكليّة. فالملاحقة كانت ولا تزال لنشاطه، ونهجه، ومشروعه الديني والوطني.
لقد رافقتُ الشّيخَ رائد صلاح في ملفاته منذ عام 2003، من عند ملف رهائن الأقصى مرورًا بملف باب المغاربة وملف خطبة وادي الجوز، ثمّ ملف سطح الحلواني وملف الكرامة وملف سفينة مرمرة، إلى ملف الثّوابت الذي يُسجن بسببه في هذه الأيام.
وقدّر الله لي الاستمرار في زيارته في السجون الإسرائيلية كلّ هذه الفترة، إلى جانب الزملاء المحامين الموكّلين المحامي بالدفاع عنه والمسموح لنا، بالإضافة إلى العائلة المصغّرة، بزيارته في السّجن.
ومن خلال هذه الزيارات اطّلعتُ على جوانب عدّة في شخصية الشيخ رائد صلاح، وسلفًا أقول إنني لن أستطيع في هذا المقال الإحاطة بكل هذه الجوانب بالإضافة إلى جوانب أخرى لم يأت الوقت لكشفها.
لقد تعاملتُ مع الشيخ رائد في مجالات عدة في مرحلة مبكّرة من عمري المهني، وكانت إدارة ملفات الشيخ رائد صلاح هي أشبه بإدارة معركة وصراع على القضيّة الأصل، على المشروع الذي يحمله، وفي قلبه ملف القدس والأقصى.
الشيخ رائد صلاح إنسان ذكي وحكيم يدير أموره بخطوات محسوبة، هو ليس لُقمة سائغةً وليس متهوّرًا. يوظّف كلّ الأدوات لصالح مشروعه الذي يحمله، وهذا ما بدا واضحًا في سلوكه في كل الملفات التي لفّقتْها السلطات الإسرائيلية له.
لقد قدّمتُ وزملائي المحامون للشيخ الاستشارات القانونيّة التي تتعلق بكثير من نشاطاته، وكان يتميّز بقدرته على الموازنة بين الاعتبارات المختلفة والقدرة على التّرجيح بينها بشكل ملفت للانتباه والتقدير.
في الملف الحالي، وهو ملف الثّوابت، ومنذ اللحظة الأولى، أدرك الشيخ أنّ الملف سيطول، وعندما زرتُه في 15 أغسطس/آب 2017 يوم اعتقاله في مركز التحقيق بمدينة اللد، وبدأنا نقاش الملف واستعراض حيثيات التحقيق، أدرك الشيخ أن هذا الملف موجّه للثوابت التي يحملها والتي عاش عليها، ومنها الثوابت الدينيّة والوطنيّة والقوميّة والتراثيّة والحضاريّة، وقال لي بالحرف الواحد: “هذا الملف بدأ صغيرًا ولكنّه سيكبر مع الوقت، والاعتقال سيطول، هذا الملف سيطول وسيكبر يومًا بعد يوم ولكنّه سيتلاشى في آخر المطاف”.
من الجدير ذكره أن الشيخ خرج منتصرًا مِن كل الملفات والتّهم التي نُسبت إليه، ليس انتصارًا شخصيًا، بقدر ما هو انتصار الفكرة والمشروع. وبالرّغم مِن حكم السّجن الذي كان يُفرض عليه، وهو يدرك قساوة السّجن الإسرائيلي ويدرك الثّمن الذي يدفعه مِن حريته وصحّته، إلا أنه يبدي استعدادًا مُنقطع النّظير لدفع هذا الثّمن في سبيل الفكرة والمشروع والثوابت والمفاهيم الدينيّة والوطنيّة.
الشيخ يبلغ مِن العمر ما يقارب الاثنين والستين عامًا، وظروف السّجن قاسية وخاصّة وجوده في العزل الانفرادي، إذ يُمنع بموجبه مِن التواصل مع الأسرى الآخرين، وهذا بطبيعة الحال يمسّ حياته الاجتماعية، فالإنسان اجتماعي بطبعه كما يقول ابن خلدون، وعَزْل الشيخ في هذه الظروف يُعتبر أحد أنواع التعذيب المحرّم قانونيًا، ولكنّ الشيخ يقابل كل ذلك بابتسامة الواثق بعدالة مشروعه وصدق طريقه.
لقد لمستُ عند الشيخ رائد الإيمان العميق بالله عزّ وجلّ، ومن خلاله تلمس نموذجًا عمليًا للإيمان الحقيقي، واليقين الراسخ بسُنن الله في الأرض، ودائما يفوّض الأمر كلّه إلى الله، ويستعين بكلّ ذلك على مرارة السّجن وقسوة ظروفه.
لا يوجد عند الشيخ وقت فراغ، بل إنه يشكو مِن قلة الوقت، وفي مرة قال لي إنه يتمنى إنهاء مهامّه التي وضعها لنفسه قبل أن تنتهي فترة سجنه، فهو منظّم جدًا ومهتم إلى أبعد الحدود بتنظيم أوقاته من أجل استثمارها في النّافع والمفيد. فهو يقرأ ويكتب ويرسم وينظُم الشّعر ويتفكّر ويتدبّر ويتابع الأخبار ويحللها، ويرسم المستقبل.
للشيخ برنامج تعبديّ ثابت في السّجن مِن صلاة مفروضة وتطوّعٍ وقيامٍ وأذكار وأوراد ثابتة يرددها ويحافظ عليها.
تجتمع في ساحة السّجن التي يقضي فيها الشّيخ جولته اليومية الطيور والعصافير، وكلما خرج للفورة (الجولة اليومية) يأخذ معه الخبز ويضعه في جيبه حتى يطعم الطيور التي تتجمع حوله وكأنّها تواسيه، وبالمناسبة، فإن للشيخ قدرة على تقليد أصوات العصافير وكأنه يتكلّم معها.
في هذا السياق أذكر أنّ شرطة القدس اعتقلته سنة 2009، وهناك أتيته لمتابعة الاعتقال، وأثناء مناقشتنا أسباب الاعتقال وعمليّة التحقيق وكيفية إدارتها، لاحظتُ أنه منشغلٌ بشيء آخر، ولم يطل انتظاري حتى توجّه إليّ وأعطاني مفتاحًا، وهنا تظنّ أنك تأخذ مفتاحًا سريًا لخزنة سرية أراد أن يُخرج ما فيها قبل أن يأتي مفتشو الشرطة ويصادروا محتوياتها، لكنّه أعطاني مفتاح قفص العصافير الذي يملكه في بيته وطلب مني إعطاءه لأهله ليطعموا العصافير. في هذه الظروف وهو يخضع لتحقيقات الشرطة الإسرائيلية، وهو معرّض للاعتقال أو تمديد توقيفه، كان منشغلًا بإطعام العصافير. هذه القصة كانت في بدايات تعرفي على الشيخ عن قرب، فغرستْ فيَّ معاني الرحمة والعطف حتى في أحلك الظروف.
إحدى المعايير التي ترصدها إدارة السّجن لتقرير “خطورة الشيخ”-حسب مفهومهم- هي مدى تأثيره على المحيطين به، ومن هذه المعايير مدى تأثيره على السّجانين. وفي إحدى الزيارات حدّثني أنّ سجّانًا كان يناديه بـ “الشيخ رائد”، وذات مرّة سمعه مسؤول القسم فنهره وقال له: “لا تقل شيخ، قل رائد لوحدها”، وهذا المشهد تكرر مع سجين يهودي أيضًا كان ينادي الشيخ بـ “الشيخ رائد”، فدعاه مدير القسم ونهره وقال له: “لا تقل شيخ، هذا إرهابي”، وجاء السجين اليهودي وأخبر الشيخ ذلك.
ثقافة الشيخ رائد العالية وسعة اطّلاعه، وخاصةً بالشريعة اليهودية، تعمّقت بعد تأليفه كتاب “قراءة سياسية في توراة اليوم وملحقاتها”، فأصبح عنده اطّلاع كبير على التوراة واليهودية وكان يناقش السّجانين اليهود فيها ويسألهم أسئلة لا يعرفون الإجابة عنها وكانوا يتفاجؤون مِن سعة اطلاعه وعمق ثقافته.
الشيخ رائد عزيز النّفس لا يطلب مِن السجان أيّ طلب، فهو يطهو طعامه لوحده، ويشتري كلّ مستلزماته من دكان السّجن التي تسمى “كانتينا”، وهو منظم جدًا في طعامه وشرابه ونومه، ويحرص على نظافة وترتيب غرفته التي يعيش فيها بشكل دائم.
لم أسمع من الشيخ رائد طيلة فترة مرافقتي إياه أنا وزملائي الآخرين أي اعتراض أو تذمّر، وهو يحترم التخصصات ويستشير أصحاب الخبرة، ويوجّه النّقاش نحو الهدف الأساس، وعندما كنا نصل في نقاشاتنا إلى مفصل للمفاضلة بين المصلحة القانونية لشخصه وبين القضية الأساس، فإنه لا يتردد في التنازل عن مصلحته الشخصيّة ويغلّب المصلحة العامّة وإن كان سيدفع الثمن غاليًا في سبيل ذلك.
أذكر عندما ناقشنا قرار دخوله السّجن في شهر أغسطس/آب من العام 2020 وكنتُ قد عرضتُ عليه التقدم بالاستئناف للمحكمة العليا الإسرائيلية كإجراء شكلي من أجل تأخير دخوله السجن بسبب وباء كورونا، وكان في التّوجه للمحكمة العليا خطورة معينة على القضية الأساس، لأن قرار المحكمة العليا له أهمية على المستوى القانوني، وفي حينه عرضتُ عليه الأمر فقال لي: “أنتم الذين تقررون”، فحاولت معه وقلت أريد سماع رأيك، فقال لي: “أنتم الذين تقررون وأنا سأنفّذ ما تقررون”.
ورفض بشكل قاطع إبداء رأيه لنا، لكنه نصحنا بأخذ الرأي الشرعي (فتوى شرعية) وترَكَ القرار لنا، وفعلًا استشرنا الرأي الشرعي وفي نهاية المطاف قررنا عدم الاستئناف، ما يعني أنّ عليه تسليم نفسه لسلطة السّجون في الموعد المحدد. وكانت لحظات صعبة بالنسبة لي، وقمت بإبلاغ الشيخ بهذا القرار، فقابل ذلك بالحمد والشّكر والابتسامة وقال: “توكلنا على الله”.
الشيخ المرابط، فالشيخ يمارس عبادة المراغمة والرّباط حتى وهو في سجنه وفي أقسى الظروف. فهو صلب، ثابت، شجاع، صابر لا يتزحزح عن مواقفه، وهو صاحب مقولة “لا نحبّ السجون ولكن إذا فرضت علينا في سبيل القدس والأقصى فمرحبًا بها”.
وفي المقابل يتمتّع بمرونة إلى أبعد الحدود في المواقف التي تتطلب المرونة، وبهذه الصّفات فرض احترامه وهيبته على كل المحيطين به.
سلفًا أقول إنه في جعبتي الكثير من الكلام في هذا الموضوع وإن شاء الله وفي الوقت المناسب سنكشف المزيد.