تذكّر الحملة التي ينفّذها الاحتلال الإسرائيلي ضدّ المؤسسات المقدسيّة منذ أكثر من أسبوع، المقدسيّين بحملة أخرى تبعت انتفاضة الأقصى الثانية في عام 2001.
بعد عام من اندلاع انتفاضة لم يتوقّعها الاحتلال في 28 سبتمبر/أيلول من عام 2000، أصدر رئيس وزراء الاحتلال آنذاك أرييل شارون، في أغسطس/آب من عام 2001، أوامر بإغلاق مؤسسات مقدسيّة عدّة، في مقدّمتها “بيت الشرق” الذي عُدّ في حينه مقرّاً لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس ورمزاً للوجود الفلسطيني في المدينة المقدسة، عدا عن كونه مقرّاً للفريق الفلسطيني المفاوض إلى مؤتمر مدريد. وشملت الأوامر كذلك مؤسسات خدمية مهمة، منها جمعية الدراسات العربية، والغرفة التجارية، ونادي الأسير الفلسطيني، ومركز المشاريع الصغيرة، ومركز أبحاث الأراضي، والمجلس الأعلى للسياحة وأقسام التخطيط والخدمات الاجتماعية التابعة لـ”بيت الشرق”، ومركز التوثيق والمعلومات، ودائرة الخرائط ونظم المعلومات الجغرافية، ومركز أبحاث الأراضي.
يُذكر أنّ الإغلاق الأوّل لـ”بيت الشرق” ولثلاثة مكاتب وجمعيات ناشطة في إطاره أتى بتاريخ 26 إبريل/نيسان من عام 1999، وقد وقّع عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها بنيامين نتنياهو تحت ضغط اليمين المتطرف. وفي السياق، يُعَدّ مركز أبحاث الأراضي واحداً من أبرز تلك المؤسسات، وقد تأسس في عام 1986 كجمعية تابعة لمركز جمعية الدراسات العربية برئاسة الراحل فيصل الحسيني آنذاك، ووُجّهت إلى القائمين عليه تهمة تنفيذ سياسات السلطة الفلسطينية في ما يخصّ التصدي لمصادرة الأراضي التي راحت تنفّذها سلطات الاحتلال.
الحملة الجديدة هي الأخطر، بحسب ما يرى المقدسيّون الذين انشغلوا، في الأيام الماضية، بتطوّرات متسارعة على صعيد استهداف مؤسساتهم التعليمية والإعلامية والصحية بالإغلاق، بالإضافة إلى استهداف رمزية محافظ القدس عدنان غيث مجدداً، هو الذي اعتقل 13 مرّة منذ توليه منصبه وأُفرج عنه في المرّة الأخيرة بعد ساعات من اعتقاله. ويعبّر هؤلاء المقدسيّون عن مخاوفهم، إذ إنّ الحملة قد تؤدّي إلى تداعيات مستقبلية، خصوصاً على قطاع التعليم المستهدف بالتهويد والأسرلة.
تعليقاً على تلك الحملة، يقول المحلل السياسي والإعلامي والخبير المتخصص في شؤون التعليم، راسم عبيدات، في حديث صحفي، إنّ “الحرب على القدس شاملة تستهدف البشر والحجر والشجر والمؤسسات. كل مظهر من مظاهر الوجود العربي الفلسطيني في المدينة مستهدف، حتى لو كان نشاطاً خاصاً بالأطفال أو مهرجاناً رياضياً أو حتى مخيّماً صيفياً. وهذه الحرب المستعرة على المدينة من قبل الاحتلال يقابلها عدوان أميركي مباشر على الشعب والقضية الفلسطينية والقدس”. يضيف عبيدات أنّ “الإدارة الأميركية الحالية من رئيسها حتى أصغر موظف فيها أكثر صهيونية ومعاداة لحقوق الشعب والقضية الفلسطينية من الحكومة الصهيونية اليمينية المتطرّفة، فهي لم تكتف بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وكذلك شطب وتصفية قضية حقّ العودة من خلال تصفية وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من خلال تجفيف مصادرها المالية وتقييد تعريف اللاجئ، فقد جاء الآن دور شرعنة الاستيطان في الضفة الغربية”.
ويشير عبيدات إلى أنّ “ما يُرتكب من مجزرة في حقّ المؤسسات الفلسطينية في المدينة المقدّسة، من إغلاق مؤسسات ومحطات فضائية مثلما حصل عند إغلاق مكتب مديرية التربية والتعليم لمدّة ستة شهور واعتقال مديرها سمير جبريل والعبث بمحتوياتها والاستيلاء على أجهزة حاسوب وملفات تعليمية، ثمّ اقتحام مقرّ مكتب شركة الأرز للخدمات الإعلامية في الصوانة ومحاصرة العاملين فيه واعتقال مدير المكتب الصحافي أيمن أبو رموز، وكذلك إغلاق مؤسسة وتلفزيون فلسطين الرسمي لمدّة ستة شهور بعد مصادرة أجهزة عدّة واستدعاء مراسلة التلفزيون نفسه الصحافية كريستين ريناوي إلى التحقيق… كلّ ذلك يأتي من ضمن حرب استنزاف مستمرة ومتواصلة على المقدسيّين تستهدفهم في كلّ مناحي حياتهم، فتُهدَم المنازل وتوزّع الإخطارات بالهدم على مدار الساعة وتُنفَّذ عمليات اقتحام ولا تتوقّف الاعتقالات في حقّ الأطفال والفتيان والشبّان، أمّا الاستيطان فنحن أمام تسونامي استيطاني في القدس”. ويرى عبيدات أنّ “الاحتلال، من خلال إغلاق مديرية التربية والتعليم واستهداف مدارسها، أخيراً، إنّما يريد ضرب المنهاج الفلسطيني في مدارس القدس، في ظلّ تزايد الهجمة ضراوة على المدارس الفلسطينية في المدينة المقدّسة بهدف فرض المنهاج الإسرائيلي”.
من جهته، يقول الناشط المقدسي مازن الجعبري في حديث معه إنّ “إسرائيل لم تغيّر سياستها المعلنة تجاه القدس منذ احتلالها في عام 1967، لكنّها تخضعها إلى المتغيرات السياسية الدولية والمحلية، فتستفيد بالتالي منها في تنفيذ مصالحها وتضاعف الفائدة من الإجراءات المناسبة في اللحظة السياسية المحددة”. ويؤكد الجعبري أنّ “إغلاق مؤسسات سيادية فلسطينية مثل بيت الشرق قبل 18 عاماً، وإغلاق مكتب مديرية التربية والتعليم في القدس التابع رسمياً لدائرة الأوقاف الأردنية أخيراً، يشير إلى تغيّرات جوهرية في السياسة الإسرائيلية”. ويشرح الجعبري: “لقد كان إغلاق بيت الشرق بداية محاربة السلطة الفلسطينية في القدس ومنع نشاطاتها، وأظنّ أن إغلاق مكتب التربية والتعليم مؤشّر على اقتراب السيطرة على دائرة الأوقاف الإسلامية والمحكمة الشرعية في القدس، وبالتالي إنهاء الرعاية الأردنية بعد إنهاء الوصاية الأردنية عملياً”.
يضيف الجعبري: “لكن في موضوع التحليل السياسي واللحظة السياسية، فإنّ الأمر مرتبط بموضوع الأراضي الأردنية في الباقورة والغمر التي انتهى عقد تأجيرها وفقاً لمعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية الموقّعة في عام 1994، وقد استُرجعت رسمياً في العاشر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. ويبدو أنّ الحكومة الإسرائيلية كانت تحضّر ورقة الضغط على الحكومة الأردنية لتمديد اتفاقية التأجير للأراضي الأردنية، إلا أنّ قضية هبة اللبدي وعبد الرحمن مرعي التي ألهبت الشارع الأردني جعلت الحكومة الإسرائيلية تؤجّل إغلاق مكتب التربية والتعليم في القدس وأجبرتها على الإفراج عن المعتقلين الأردنيين”. ويتابع أنّ “إسرائيل تقترب بالتالي من وضع اليد على دائرة الأوقاف الأردنية ومحكمتها الشرعية في القدس، للسيطرة الكاملة على المسجد الأقصى والعقارات الإسلامية، خصوصاً في البلدة القديمة من القدس”.
في السياق، كان أحمد الصفدي، عضو اتحاد المعلّمين، وفي خلال وقفة احتجاجية نظّمها الاتحاد قبل أيام أمام مكاتب مديرية تربية القدس المغلقة، فنّد ادّعاءات الاحتلال بشأن قرار إغلاق مكاتب المديرية. وقال الصفدي إنّ “مكتب مديرية التربية يقدّم الخدمات التعليمية البحتة من تحت مظلة دائرة الأوقاف الإسلامية التابعة للمملكة الأردنية الهاشمية، وإنّ ادعاءات الاحتلال التي ساقها حول مَن وقّع على أمر الإغلاق باطلة تماماً”. وإذ أشار إلى الصلة الوثيقة ما بين قرار إغلاق المديرية ومحاولات الاحتلال فرض المناهج التعليمية الإسرائيلية على مدارس القدس، شدّد على أنّه “من حقنا كفلسطينيّين وكمقدسيّين تعلّم منهاجنا الفلسطيني، ورفض أيّ منهاج دخيل يفرض على مدارسنا وطلابنا”.