الخميس 26 سبتمبر 2019 08:32 م بتوقيت القدس
لقد أصبحنا على مسار العزل. قام سبعة أعضاء ديمقراطيين واعدين وجدد في مجلس النواب الأميركي، والذين يمثلون المقاطعات المتأرجحة (بين التصويت للديمقراطيين أو الجمهوريين)، يوم الثلاثاء، بنشر مقال للمطالبة بعزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في صحيفة "واشنطن بوست"، في حال ثبوت الاتهامات حول ضلوعه بابتزاز الرئيس الأوكراني، للقيام بخطوات تسيء لسمعة المرشح الديمقراطي البارز (منافسه)، جو بايدن، وابنه هنتر.
هؤلاء هم الأعضاء نفسهم الذين هيّأتهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي (التي تمثل ولاية كاليفورنيا)، لحماية استراتيجيتها لعام 2020، ولم يستغرق الأمر سوى بضعة ساعات فقط لتعلن عن افتتاح تدقيق رسمي بمدى وجوب العزل. وكان الأمر كما لو أن زوجين استمرّا بعلاقتهما من أجل مصلحة الأطفال فقط، قبل أن يجلس معهم الأطفال أنفسهم ويطلبون منهم المضي قدما في إجراءات الطلاق.
ما الذي تسبب بهذه النقلة المفاجئة في موقف الديمقراطيين الذين كان يبدون حتى أسبوع خلى، حسن كانوا عازمين على إبقاء قاعدة ناشطيهم على الشاطئ، لكي يحافظوا على لعبة سياسية آمنة حتى الانتخابات الخاصة في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، لاستبدال الأعضاء الذين توفوا أو استقالوا في الكونغرس الأميركي الـ116؟
قد تكمن الإجابة على ذلك في خطورة سوء سلوك ترامب المزعوم. وبالتأكيد، فإنه إذا صح أن ترامب، قام بالفعل بتعليق المساعدات لأوكرانيا لاستخراج معلومات ضارة عن بايدن، فربما يكون هذا أفسد أمرٍ غير مبرّر، يرتكبه منذ وصوله إلى منصبه.
وقد يكون التحول في رأي الديمقراطيين، كما ادعت عضو مجلس النواب المخضرمة، عن ولاية فرجينيا، أبيغيل سبانبرغر، وزملائها، في مقالهم المنشور في صحيفة "واشنطن بوست"، ناجمًا عما تمثله هذه الاتهامات من "خطر على الأمن القومي". ولكن هل يمكن اعتبار ابتزاز رئيس أوكرانيا، أسوأ من تهديد ترامب بالإبادة النووية على "تويتر"؟ أعتقد أن المسافة التي خطاها في القضيتين قد تختلف بالنسبة لكثيرين، ولكن يبدو أن الديمقراطيين يعتقدون أنهم سيكونون أكثر حظا في تثبيت الاتهامات ضد ترامب، سواء في التحقيق نفسه أو في محكمة الرأي العام، إذا كانت تنطوي على فضيحة تؤثر مباشرة على انتخابات 2020.
وعلى مدار الأشهر الماضية، ومع تزايد الضغوطات التي مارسها ناشطون، ويساريون بارزون، بدا من الواضح أن بيلوسي تعتقد أن الرئيس ترامب لا يحظى بالشعبية التي يفترضها، ما يمكن الديمقراطيين من التغلب عليه، والسيطرة على مجلس النواب، وربما حتى إحكام قبضتهم على مجلس الشيوخ. وهذا ليس مجرد أمل لا أساس له على أرض الواقع، فبحسب توقعات المحلل السياسي في موقع "ريل كلير بوليتيكس"، شون تريندي، فمن المرجح أن يخسر الحزب الجمهوري مجلس الشيوخ في حال انحدر الرضى الشعبي عن ترامب، في استطلاعات الرأي، إلى 42 بالمئة، أو ما هو أدنى من ذلك، وهو رقم نجح في تخطيه عدة مرات خلال مسيرته الرئاسية الاعتباطية. ويسود التفكير بأنه إذا ما كانت السفينة تبحر نحو النصر، أي فوز الديمقراطيين، فلا يجب حرف مسارها في الوقت الذي لا تزال فيه أغلبية الناخبين معارضة للعزل.
وبينما أجد نفسي معارضا لهذا الرأي، فإن هناك منطقا معيّنا يقف وراء تغيير مواقف الديمقراطيين تجاه ملف العزل. ففي هذه اللحظة، تبدو أحداث فضحية التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، كأنها حدثت في الماضي السحيق. وعلى الرغم من أن المخالفات التي فُصلت في "تقرير مولر"، هي بنفس القدر من الخطورة، أو أكثر حتى، من تلك التي يُفترض أن الرئيس ارتكبها في فضيحة أوكرانيا، فإنها تبقى بالنسبة لمعظم المصوتين العاديين، أخبارًا قديمة.
ونجحت مناورة الرئيس بتوظيف محامٍ عام ليّن، دفعه إلى دفن تقرير مولر بشكل استباقي. ونُزع السلاح القانوني من وزارة العدل على نحو شامل، وطُوعت لإرادة ترامب سيئة النوايا، بثمن باهظ على مستقبل سلطة القانون. ولا يمكن تبرير وضع البلاد في مسار العزل، بسبب أعماله الفاسدة المتنوعة التي ارتكبها في وضح النهار، مثل استخدام القوة الجوية لمنتجعه الخاص في أسكتلندا، كمكان للإقامة، أو الطريقة التي يثري بها الرئيس نفسه باستخدام منتجعه الفريد في فلوريدا كـ"البيت الأبيض الجنوبي"، فذلك يحتاج قضايا أكبر من ذلك.
لكن فضيحة أوكرانيا تغيّر كل شيء، وكما جرت العادة، فإن الرئيس يتصرف بذات الطريقة، كأنه عدو نفسه اللدود؛ ويمكننا بطريقة أو بأخرى، أن ننظر إلى الرئيس على أنه سياسي يخضع لإفراج مشروط، حيث تصبح وظيفته الوحيدة هي تجنب ارتكاب مخالفات جنائية أخرى. فبعد رؤية رئاسته على وشك الانتهاء بسبب تواطؤ حملته الانتخابية مع روسيا، وجهوده اللاحقة لعرقلة مجرى العدالة، أتيحت لترامب فرصة، في أعقاب شهادة المستشار الخاص السابق روبرت مولر في تموز/ يوليو الماضي، لتنظيف سجله، وإدارة أعمال إدارته بأدنى مستوى من النزاهة، وتحويل الانتخابات لاستفتاء على الاقتصاد الذي لا يزال قويا.
وبالطبع، إذا كانت الأمور بسيطة لدرجة تسمح لمستشاري الرئيس باختطافه، وإخفاء هاتفه المحمول، ومن ثم إخراجه لإجراء مؤتمرات صحافية على مدار أسبوعي كديكتاتور يموت سرا، فإن ذلك قد يمنحه فرصة لإعادة انتخابه؛ لكن ترامب، الذي يطوف كما يبدو، بمساعدة شعوره بأنه استطاع التغلب على فضيحة روسيا، هرول على الفور إلى ارتكاب جرائم جديدة، وكان على درجة كافية من الغباء، للقيام بذلك في مكالمة هاتفية مسجلة مع زعيم دولة أجنبية. والأسوأ من ذلك، أنها تنطوي على ابتزاز أوكرانيا، وهو عمل يلعب دورًا أكبر في التصور السائد بأنه إلى حد ما يوجه سياساته لدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أما نائب الرئيس السابق، جو بايدن، الذي ما زال يتصدر معظم استطلاعات الرأي العام حول الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين، فمن المرجح أن يكون جزءًا من انتخابات عام 2020، على الأقل خلال يوم "الثلاثاء الكبير" في آذار/ مارس 2020، أي الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي، حتى لو لم يختَره الحزب في النهاية. وبالتالي فإن الجهود المبذولة للاعتماد على أوكرانيا في توفير معلومات تضر ببايدن تبدو ضعيفة بشكل خاص. فلا يمكن تجاهلها، كفضيحة التدخل الروسي.
بل أن ترامب تورط بما هو أكثر من ذلك، فقد حشر نفسه في زاوية قد لا يستطيع الخروج منها؛ فإذا قررت إدارته عدم إصدار الشكوى الكاملة، صادرة عن شخص مجهول الهوية من داخل مجتمع الاستخبارات، وكذلك الأشرطة (وليس النصوص، التي يمكن أن تتم معالجتها) من المكالمة نفسها، للكونغرس، فسيتم عزله بسبب حجبها. وإذا ما وفرت الشكوى دليلا قاطعا بأن ترامب أساء استخدام سلطته، إما أثناء تلك المكالمة الهاتفية مع الرئيس الأوكراني فولودير زيلينسكي، أو في محادثات لاحقة، فسيتم عزله على هذا الأساس أيضا. أما الأمر الوحيد الذي قد يعفيه من العزل ومحاكمة مجلس الشيوخ في هذه المرحلة، سيكون إذا اتّضح أن الاتهامات ليس لها أدنى أساس من الصحة.
ما هي احتمالات ذلك؟
ترجح جميع التقديرات أن كبار الديمقراطيين باتوا يعرفون بالفعل ما الذي ذكر في نص المحادثة بين ترامب ونظيره الأوكراني، ويشعرون بنوع من اليقين بأن شهادة المخبرين أمام الكونغرس ستكون مدمرة بالنسبة للترامب. وتوضح التقارير بالفعل أن المبلغ عن الفساد لاحظ وجود نمط سلوك مرتبط بأوكرانيا فظيع للغاية لدرجة أنه أو أنها قبل/ت التعرض لهذا الخطر الهائل لكشف المسألة. ومن الصعب أن نرى بيلوسي التي تتسم شخصيتها بالحذر، وجميع هؤلاء الديمقراطيين ذوي المقاعد المتأرجحة، يصطفون بشكل حاسم وعلني وراء تحقيق العزل إذا لم يكونوا متأكدين بشكل معقول من أن لديهم ما يدين ترامب وأخيرا.
لقد تخطى الرئيس، حتى الآن، مسألة إرضاء الجمهوريين في الكونجرس، لإطاعته بشغف، والذين يشعر جميعهم بالرعب من ناخبيهم الأساسيين، إذا ما أزالوا هذا الفاسد من منصبه ووضعوا مكانه مايك بينس. ولكن كما كتب زميلي جويل ماثيس: "كان هذا اليوم حتميا لحظة انتخاب دونالد ترامب للرئاسة".
إن تجاهل ترامب لسيادة القانون، وازدرائه للدستور، وسخطه الغريزي هو جزء من سجل حياتي طويل اتسم بخداع المتعاقدين، وتمزيق المستثمرين، وإقناع الآخرين بأوهامه الكبرى لفترة كافية لجباية مدخرات حياتهم. لقد جلب أخلاقيات الرأسمالية السيئة هذه إلى البيت الأبيض معه ولم يتزحزح عنها قيد أنملة. وذلك، إلى جانب غطرسته الشاهقة وجهله المذهل، دفعه لوضع نفسه في مسار تصادمي مع الدستور منذ اللحظة التي أفسد فيها الكتاب المقدس بأداء القسم اليمين الذي لم يكن لديه أي نية للإيفاء به.
كان زيلينسكي، هدف محاولة الابتزاز من ترامب، كوميديا قبل أن يفوز برئاسة أوكرانيا في نيسان/ أبريل الماضي. وهناك مقول قديمة تقول إن الكوميديا هي عبارة عن دمج المأساة مع الوقت، إلا أن مأساة ترامب قد تكون عبارة عن دمج الكوميديا بالجريمة. وربما قد حان وقته (وقت عزله).